الواقعية


الواقعية: 

يعتبر "جورج لوكاش" G.LUCKACS فيلسوف الواقعية الأكبر فى النصف الأول من القرن العشرين هو المنظر الأساسى لمبادئ المدرسة الجدلية التى تعود إلى الفيلسوف الألمانى " هيجل" HEGEL ورأيه الذى بلوره فيما بعد "ماركس"  MARX فى علاقة الإنتاج وقوى الإنتاج من ناحية وبين البنى الفوقية وهى الثقافة والفنون والفلسفة فقد أوضح أن العلاقة بينهما متبادلة ومتفاعلة قائمة على التأثير والتأثر .

فالتغيير فى البناء الاقتصادى والاجتماعى يؤدى إلى تغيير فى مجمل الوعى أو مجمل البناء الفوقى ومن ناحية عكسية يؤثر الوعى الثقافى او البناء الفوقى فى البناء التحتى بل يثبته أو يعدله او ربما يغيره كلياً، فالواقع المادى فى تفاعل مستمر مع الأفكار، والتغيرات التى تحدث فى المجتمع نتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كلها تؤثر فى الوضع الإنسانى والدراما فى مضمونها هى انعكاس للواقع الاجتماعى

وقبل ظهور الفلسفة المادية كان من المعتقد أن البنية الفوقية للمجتمع تتطور على نحو مستقل ومتميز كل التميز عن البنية التحتية حتى ربطته تلك الفلسفة ببعضه البعض ووصلته بتطور المجتمع .

وفى أواخر القرن العشرين أكد بعض علماء الاجتماع على ضرورة تخصيص فرع من فروع المعرفة السوسيولوجية لدراسة الأدب باعتباره ظاهرة اجتماعية مثل باقى الظواهر الاجتماعية الأخرى، وأطلق عليه أسم (علم اجتماع الأدب )

ومن هنا يتضح أهمية المجتمع فى عملية الإبداع الفنى والإبداع الأدبى على وجه الخصوص  فالأدب لطالما تأثر بالأوضاع الاجتماعية والتاريخية فهو مرآة للظروف الاجتماعية والتاريخية.

ولقد أكد عالم الاجتماع الفرنسى "إميل دوركايم" E.durkherm على ذلك بقوله " أن الأدب ظاهرة اجتماعية وهو إنتاج نسبى يخضع لظروف الزمان والمكان وهو عمل له أصول خاصة به وله مدارسه ولا يبنى على مخاطر العبقرية الفردية وهو اجتماعى أيضا من ناحية انه يتطلب جمهورا يعجب به ويقدره "

والمسرح بوصفه أحد االفروع الأدبية يعتبر " أكثر الفنون ارتباطاً بالحياة فهو نشاط إنتاجى جماعى جدلى تتحول فيه الممارسة الإبداعية إلى ممارسة اجتماعية معرفية عبر عمليات الإرسال والاستقبال وإعادة إنتاج الدلالة مع كل عرض
وأكثر النظريات تمثيلا لهذا الاتجاه هى " نظرية الانعكاس " والتى تهتم بالعلاقات والنظم المادية داخل المجتمع وتبحث فى طبيعة العلاقات والمتبادلة بين المجتمع والأدب وترصد التأثيرات المتبادلة بينها. ويؤكد "ماركس " Marx على هذا المعنى حيث يقول: أن الأدب والفن هما سلاح الطبقة حيث ينقسم المجتمع إلى طبقات ويعكس الأدب والفن بطريقة مباشرة و غير مباشرة معنويات كل طبقة وآرائها السياسية وذوقها الجمالى." ذلك أن ما أصاب المجتمع الإنسانى من تطور اقتصادى وسياسى وفكرى فى مطلع القرن العشرين  وما لحق به من حروب عالمية ومحلية وما استجد عليه من نظم سياسية وما خاضته أكثر الدول من ثورات وصراعات هدفها الحرية والاستقلال كل ذلك قدم للأديب دورا فعالا فى المجتمع الذى يعيش فيه والمشاركة فى قضاياه بما يضمن مواجهة الفساد - فالأدب فى نظر الباحثين  أداه من أدوات الاصلاح الاجتماعى ووسيلة من وسائل الدعاية ضد الممارسات السياسية والاجتماعية الفاسدة. 

ولا يختلف اثنان فى أن هذه الوظيفة التنويرية للأدب هى ما يؤكده التفسير الصحيح لـ " نظرية الانعكاس وهى التى نادى بها الفلاسفة والمفكرون منذ أقدم العصور وعلى رأسهم سقراط Socrates حيث اكد أن " الفن سواء كان فنا جميلا أو فنا صناعيا له وظيفة تخدم الحياة الإنسانية والأخلاقية " 

فقد طرح أفلاطون مفهوم " المرآة التى تمثل فكرة انعكاس الحياة فى الأدب وأستخدم أرسطو أيضا مفهوم المحاكاة ليؤكد على أن الفنون بصفة عامة هى محاكاة للواقع وصارت هذه الفكرة مألوفة بعد ذلك فى النقد الأدبى الذى ظهر فى عصر شيشرون الرومانى حيث استخدم مصطلح " مرآة العادات" أى أن الاعمال الفنية والأدبية تعكس العادات والتقاليد المجتمعية واستخدم هذا المفهوم أيضا لدى نقاد العصور الوسطى التى كانت تشير فى هذه الحقبة إلى هدف تعليمى انتشر منذ القرن الثالث عشر حتى القرن الخامس عشر وقدمت أعمال هذا النوع لطبقات مختلفة من الأفراد مثل " مرآة العذارى "و " مرآة الراهبات " ....... الخ 

 وبعكس العرف السائد حاليا كانت وظيفة المرآة حين ذاك معيارية وليست تصويرية وقد استخدم شكسبير مفهوم " المرآة والانعكاس " فى مسرحه حيث أكد على واقعية الفن الذى يجب أن يكون انعكاسا للحياة لا تحريفا لها.

وما إن ظهر مصطلح الواقعية فى الأدب فى منتصف القرن التاسع عشر حتى صار تعبير " أن الفن انعكاس أمين للطبيعة " شعارا لها واعتبرت الفن المقبول هو ما كان مرتبطا بالمجتمع مقدما له ما يتفاعل معه ويغير منه وعلى هذا المعتقد فإن الأديب عليه أن يغترف مادته الادبية من المنهل العام للمجتمع وأن يرسم بقلمه مشكلاته وأن تكون لديه القدرة على الإحساس بتموجات الحياة الاجتماعية والرصد الدقيق لخلجات المجتمع واكتشاف قضاياه من خلال متعمقه 

وترجع أول معالجة حقيقية لتوصيف العلاقة بين الأدب والمجتمع إلى الفيلسوف الفرنسى "هيبوليت تين"  H.taine  1856 ومن بعده "أوجست كونت" Auguste conte 1798  مؤسس الفلسفة الوضعية وأول من بدع مصطلح علم الاجتماع

 حاول تين إخضاع الأدب والفن إلى أسس وقوانين تعكس حقائق مؤكدة ومحددة من المجتمع حيث يرى أن الأعمال الأدبية ينبغى أن تفهم على أنها نتيجة أو محصلة ثلاثة عوامل هى العصر والجنس (العرق) والبيئة.

وقد عرف تين taine العرق فى ضوء السمات النظرية والوراثية والمزاج الانفعالى وأشار إلى أن هناك اختلافا واسع النطاق بين الأجناس البشرية من حيث الظروف المعيشية والموطن الأصلى والأصل التاريخى وخلافه فيكتسب الجنس الخصائص المميزة له من البيئة الطبيعية والعادات والتقاليد الموروثة والأحداث التاريخية التى مرت بها اصوله وصلا اليه فضلاً عن الدوافع والرغبات التى تلعب دوراً هاماً فى صياغة الفعل الإنسانى وتطويره.

وبالنسبة للعصر وهو العامل الثانى الذى يحدد شكل ومضمون الأدب، كما أشار تين،ـ فقد قصد به الأفكار والمفاهيم الإنسانية المسيطرة على روح العصر المنتج للعمل الأدبى وأخيرا أكد تين على دور البيئة كعامل أساسى فى تحديد شكل ومضمون الأجناس الأدبية وتعنى البيئة أشياء كثيرة كالمناخ والجغرافيا الطبيعية والنظم الاجتماعية التى تحتضنها هذه البيئة .

أما نظرية الانعكاس فقد ارتبطت بالمعنى الحرفى لها بـ " لينين " حيث أكد أن إحساسنا وشعورنا ليس سوى صورة للعالم الخارجى وهذا القول يؤكد على أن الاعمال الفنية، بصفة عامة، ما هى إلا انعكاس للواقع وان الأدب، بصفة خاصة، مرآه تصور الواقع الاجتماعى فى تناقضه وتعقده ولذلك كان "تولستوى" عند "لينين" مرآة الثورة الروسية لعام 1917 حيث كان مرآة حقيقية لتلك الظروف المتناقضة التى أحاطت بنشاط الفلاحين التاريخى فى هذه الثورة .

ويرى ماركس Marx"أن الإنسان كائن اجتماعى ينبع إبداعه من نشاطه العملى ويطرأ عليه التغير والتبدل بعمله على تغيير الطبيعة وتبديلها." إن كلمات ماركس تحمل إشارة واضحة للدور الوظيفى للفن فى المجتمع ذلك الدور الذى يؤكده عالم الانثروبولوجيا الفرنسى " ليفى شتراوس" Levi Strauss   " إن الزهور التى تترعرع فى فى الجبال وبين الصخور دون أن يراها أحد لا تعنى شيئا على الإطلاق وهذه العبارة لها دلالاتها العميقة حيث تقدم رسالة واضحة للفنان فنجد أن وجوده الفعال يتحدد بمدى اندماجه فى واقعة الاجتماعى ومشاركته فى قضاياه وعرضها والدفاع عنها أومعارضتها حسب ما يراه المجتمع من خلال وجهة نظر حرة تهدف الى الانصاف و العدالة والمساواة والحرية  .



ولا شك أن الأدب كما يقرر رينيه ويليك "نظام اجتماعى يصطنع اللغة وسيطاً له، واللغة إبداع اجتماعى وإذا كان الأدب يمثل الحياة فإن الحياة ذاتها حقيقة اجتماعية. والكاتب المسرحى حينما يصور لنا كائنا إنسانيا كاملا فهو لا يعيد تصوير الإنسان فقط بل يعيد تصوير المجتمع الذى ينتمى إليه هذا الإنسان. وهذا المجتمع ليس إلا ذرة من الكون ومن ثمة فالفن الذى خلق هذا الإنسان يعكس لنا الكون كله."

ويفسر "بول فاليرى" Paul valery العلاقة بين الفنان وبين الآخرين فيؤكد أن الفنان فى أثناء عملية الخلق الفنى يضع نصب عينيه الذين سيتوجه إليهم بعمله ومدى تأثيره فيهم فيقول: إن المبدع هو ذلك الشخص الذى بإمكانه أن يدع الآخرين يبدعون، فالفنان والمتلقى يتشاركان بفاعلية وتتحدد قيمة العمل الفنى من خلال هذه العلاقة التبادلية بين كلا منهما. وفى المسرح إذا لم تكن هناك علاقة تفاعل بين خشبة المسرح والمشاهدين فإن المسرحية تموت أو تصبح رديئة أو لم يعد لها وجود على الإطلاق.

وبناءً على ذلك فإن الكاتب عندما يبدأ بالتفكير فى عمل فنى يبدأ بحساب التأثيرات الخارجية، فهو يهتم عن وعى أو غير وعى بالأشخاص الذين سيتأثرون بعمله، ويكون لنفسه فكرة عن هؤلاء الذين يتجه إليهم كما يتصور من ناحية ثانية الوسائل التى يمكنه أن يحصل عليها لتحقيق هذا التأثير .
ويشير "جان دوفينو" jean duvignaud عالم اجتماع المسرحى إلى محور آخر من محاور العلاقة بين الأدب والمجتمع حيث "يعتبر الدراما نوعاً من الميزان الثقافى الذى يسجل أزمة القيم والمعايير الأخلاقية لعصر معين ويظهر فضائح الخلاف مع الأخلاق الموروثه

وقد تناول نقاد الأدب العربى العلاقة بين الأدب والمجتمع بالبحث والتحليل فيؤكد "طه حسين" على أن كل أديب لا يستقى مادته وروحه من حياة الشعب فليس أديبا، ولا هو بكاتب للأدب وعلى ذلك فلابد من أن تعرف ماذا يقول الشعب وكيف يعيش الشعب وكيف يحكى حكاياته وأقاصيصه ولابد للأدباء من دراسة الأدب والحياة فى البيئات المختلفة للناس

عميد الادب العربى طه حسين


 ويرى "أحمد أمين" فى كتابه " النقد الأدبى" أن الأديب لابد ان تكون له صلاته التى تربطه بالماضى والحاضر كما ان الشاعر يستقى أفكاره والأديب يستشعر أدبه لدرجة كبيرة من البيئة وعلى ذلك فخير تعريف للأدب أنه التعبير عن الحياة أو بعضها بعبارات ملهمه  جميلة. 

ويذهب " محمد حسين هيكل الى تعريف الأدب على أنه فن غايته تبليغ الناس رسالة حياتيه وجميعهم اى "طه حسين"، و"أحمد أمين"، و"محمد حسين هيكل" يقرون بوجود علاقة وثيقة بين الأدب والحياة وقد تأثر الكتاب فيما بعد بكلامهم فكان له أثره فيما تم أنتاجه من أدب مصرى.

الكاتب لويس عوض

أما عن رأى  " لويس عوض" فيرى أن  " الأدب لا ينفصل عن المجتمع وانه ليس نشاطاً لملء الفراغ فالأدب والفن والفكر والسياسة والإصلاح الاجتماعى كل هذه الأشياء أدوات للتعبير الاجتماعى

أما " نبيل راغب " فيقر بالعلاقة بين الأدب والمجتمع فيقول " أن العلاقة بين الأدب والحياة علاقة عضوية متبادلة تأثيراً وتأثراً مثل العلاقة بين العلم والحياة وإذا كان العلم يغير أنماط الحياة على كل المستويات، فأن الأدب يقوم بنفس المهمة لأنه يؤثر فى وجدان الناس ويغير من نظرتهم إلى الحياة وبالتالى سلوكهم فيها." ويؤكد على أنه "لا يمكن الفصل بين الفن والحياة، إذ أننا لو قمنا بهذه المهمة فسنفصل الروح عن الجسد ومن ثم تصير الروح شيئاً مجرداً لا نستطيع إدراكه أو استيعابه، ويتحول الجسد إلى جثة هامدة لا حراك فيها."

ويتفق " توفيق الحكيم " مع "جان دوفينو" فى الربط بين المذهب الفنى والمذهب الخلقى حين قال "هناك صلة فى اعتقادى بين رجل الفن ورجل الدين ذلك أن الدين والفن كلاهما يضيء من مشكاة واحدة، هى ذلك القبس العلوى الذى يملأ قلب الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان وإن مصدر الجمال فى الفن هو ذلك الشعور بالسمو الذى يغمر الإنسان عند اتصاله بالأثر الفنى، ومن أجل هذا كان لابد أن يكون مثل الدين قائماً على قواعد الأخلاق."

توفيق الحكيم


وبناءً على كل هذه الآراء يمكننا القول بأن الفن والأدب هما من المؤسسات الاجتماعية المتفاعلة مع الواقع الاجتماعى ومتغيراته بغرض الإصلاح والتقويم .

ولقد وجهت إلى نظرية الانعكاس بعض الانتقادات والاعتراضات من قبل النقاد وورواد الأدب فانتقد بعضهم مصطلح " الانعكاس" رافضاً قصر وظيفة المسرح على النقل الحرفى للواقع وهدمها البعض الآخر ليشيد محلها نظريات تمجد الدور الترفيهى للمسرح وتقصره على المتعة والتسلية 

وأكد " رايموند ويليامز" Raymond Williams  على وجود مفهوماً أخر معادل لمفهوم "الانعكاس" وهو التوفيق أو " التوليف" الذى يدل اسمه على التفاعل ويرفض السكونية التى توحى بها كلمة انعكاس  

ويرتكز المفهوم الجديد على عاملى الفاعلية واللامباشرة حيث يقدم تصوراً مختلفاً للعلاقة بين الأدب والمجتمع تتخطى مسألة الانعكاس على اساس أن الواقع يمر بعملية " توفيق" او تغير لمحتواه الأصلى أو على الأقل تغير صورته من خلال إسباغها لنسق روائى ومسرحى لهذا المحتوى 

إذ يشمل التوفيق  نوع من التعبير غير المباشر عن الواقع الاجتماعى من خلال أشكال متعددة من الإسقاط أو التقنيع وبذلك يمكن بعملية تحليل مناقضة استعادة صورة الواقع الاجتماعى الأصلية بعد نزع الأقنعة أو تعرية الإسقاطات. 

وفقد خلق المفهوم الجديد المجال مجال للعقل الواعى ليكون المرآة التى تتلقى الصورة قبل أن تعكسها والتى تتعامل بالقطع مع هذه الصورة بديناميكية ينتج عنها تغير الكثير من الملامح والتفاصيل فى عملية أقرب إلى إعادة الصياغة منها إلى الانعكاس

وبذلك تكون مهمة الأديب لا تقتصر على النقل الحرفى للواقع بل تتعدى ذلك إلى صبغته برؤية الفنان التى يحددها فكره وخياله بالإضافة إلى العبقرية الشخصية أو الموهبة الذاتية التى ادركها " تين" وأضافها إلى الثلاثى وهو (البيئة ـ الجنس ـ العصر) وقد أشاد بعبقرية "شكسبير" فى مقدمة كتابه عن الأدب الإنجليزى حيث أشار إلى أن هناك أدباء كبارا يرتفعون بقاماتهم عن الوسط الذى عاشوا فيه ويحققون بمواهبهم مستويات نوعية من الإبداع لا يمكن أن تفسر فقط طبقاً لنظريته السابقة، بل لابد من إدخال عامل آخر، وهو عامل الموهبة الفردية وعبقرية الأشخاص فى حساب الناقد والدارس للإبداع الأدبى."

وعلى مستوى النقد العربى يؤكد "فاروق عبد الوهاب" على أن "تاريخ الفن فى العالم عبارة عن محاولات متصلة من جانب الفنانين لحل مشكلتهم الأزلية مع شكل فنهم فالمضمون واحد والهدف الأساسى من وراء الفن الواحد، فالمضمون لا يخرج دائماً عن حياة الإنسان، وحياة الناس وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وتصوير هذه العلاقات من زاوية جديدة، زاوية خاصة. فالعلاقات موجودة ، ولكن الجديد الذى يقدمه لنا الفنان هو أن يرى هذه العلاقات فى ضوء جديد، وغالباً ما يكون ضوءه هو الخاص.، وهذه الخصوصية هى التى تضفى على المضمون جدته، ومن ثم شكله الجديد فما يميز الفنان عن غيره من البشر هو قدرته على أن يرى تكوينات جديدة فى أشياء لم تجذب انتباه غيره من الناس"، مع الأخذ فى الاعتبار أن أى تجديد فى الشكل لا يخدم غرضاً ولا يستمد مبرراته من مضمون اجتماعى يظل شكلاً عقيماً تماماً لا ثمرة فيه، وتأكيداً لهذا المعنى يستنكر "رشاد رشدى "، وهو أحد المتحمسين لمدرسة النقد الحديث، النقد الذى وجه إلى مسرحية "الأرانب" بشأن تحول بطلها إلى امرأة وتحول البطلة إلى رجل بدعوى أن هذا مخالف للواقع الحياتى ويرى أن " المؤلف " لطفى الخولى" يدعو إلى أن يحدث هذا التحول فى الحياة والواقع، وأن هذا التحول، فى مجال الدراما، ليس إلا تجسيداً للمشكلة الاجتماعية التى يعالجها المؤلف، وهو فى إطارها العام ضرورة أو حتمية التغيير فى مجتمع متطور متطلع، وفى إطارها الخاص حقيقة مساواة المرأة للرجل فى مثل هذا المجتمع أو رفض الرجل لهذه الحقيقة وضرورة تقبله لها، بل وضرورة تقبل المجتمع للتطور والتغيير الدائم لأن هذا شيء طبيعى." إن رشاد رشدى يطالبنا بأن ننسى الواقع كما نعرفه ونستبدله بالواقع الدرامى، حيث الصورة المسرحية المقدمة بأشكال جديدة ممتزجة برؤية المؤلف .

كما أن هذه الأشكال على اختلافها ليست نتاجاً فردياً، بل هى وليدة ظروف اجتماعية معينة ساهمت فى إفرازها وهذا ما يشير إليه "إرنست فيشر" Ernst Fischer  فى قوله "إن التاريخ الاجتماعى للفن يؤكد أن الأشكال الفنية ليست مجرد أشكال نابعة من الوعى الفردى، يحددها السمع والبصر، وإنما هى تعبير عن نظرة إلى العالم يحددها المجتمع ".

ويذهب " لوسيان جولدمان" L. Goldman  أحد رواد الاتجاه البنيوى التكوينى او ما يعرف بالتوليدى الى ان الأدب "مثله مثل المجتمع  فهو كل متكامل  فكل عمل أدبى لا يمكن فهمه إلا من خلال فهم أجزائه المكونة له فى علاقتها مع بعضها البعض  إلى جانب ذلك نجد عنده الاهتمام ببنية المقولات التى تكشف عن رؤية للعالم" بمعنى أن البنية الفكرية للعمل الأدبى تولد وتجسد بدورها بنية اجتماعية طبقية . 

 حيث توجه كتاب الدراما لصياغة موضوعاتهم فى شكل درامى عبثى للتعبير عن الواقع مع اللجوء إلى اللامعقول واللامنطقى فى كل تعبير فنى .حيث يعتقد كتاب المسرح العبثى أن وجودنا فى الحياة هو العبث بعينه لأننا نولد بغير إرادتنا ونموت بدون أن نسعى للموت ونحيى ما بين المولد والممات محتجزين فى أجسادنا وعقولنا، ولهذا جاءت لغة العبث مفرغة من المعنى لتؤكد لا جدوية الأفعال، أو تناول الأفكار بين الناس حيث أن الخرتيت لا يمكن أن يتفاهم مع من ليس خرتيتاً مثله لذا يأمل "يونسكو" أن ينهج المتلقى نهج " بيرنجيه " بطل المسرحية فى نبذه للأيديولوجية التى تحيط به وذلك برفضه أن يكون خرتيتاً .

ويتضح مما سبق أنه مهما اختلفت الرؤى والأشكال الفنية التى ينسج منها الكاتب إبداعاته فأنها تلتقى فى النهاية عند نقطه أو أرض مشتركة واحدة تؤكد أن العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة ديناميكية والتأثير بينهما متصل متمازج تختلط فيه الذاتية بالاجتماعية عن طريق التفاعل القائم بينهما .

أما عن النظريات والاتجاهات المناهضة لنظرية "الانعكاس" فتعتبر نظرية "الفن للفن" واحدة من أهم النظريات التى أقرت بقطع الصلة بين الأدب والمجتمع، " فقد قامت دعوة الفن للفن فى مطلع القرن التاسع عشر كنوع من الهروب من تبعات الحاضر، فتجاهل الأدباء لذلك العهد، فى أدبهم، مطالب عصرهم  وهدفوا إلى خلق أدب هو صورة الترف فى ذاته وكانوا لا يحفلون بالغايات الاجتماعية والخلقية" ، ويرون أن "العمل الفنى الجديد له توافقه وانسجامه الداخلى وعلى هذا الانسجام يتوقف الأثر المطلوب لا على اتفاق العمل مع الحياة أو اختلافه عنها . "

وينظر بعض النقاد للدعوة السابقة كرد فعل للمذهب الرومانتيكى، الذى لا يحفل بغير الترجمة عن عاطفة الشخصية، وينزل بالأدب إلى مستوى الوسيلة، حيث يرى أصحاب "مذهب الفن للفن" أن من حق الأدب أن يصبح غاية فى ذاته، لا مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة .

ومن هنا جاء تعريف إبراهيم حمادة لنظرية الفن للفن على أنها " اتجاه جمالى فى الخلق الفنى هدف به أصلاً الشاعر والناثر "ثيوفيل جوته " (1811 ـ 1872) إلى الثورة ضد استخدام الفن كأداة للتعبير عن الذات. إن هدف الفن، فى نظره، ينبغى أن يكون لذاته الجمالية لا أن يكون وسيلة للإفصاح عن مشاعر الفنان الخاصة ."

وقد انبثقت هذه النظرية عن الفلسفة المثالية التى يعد الفيلسوف الألمانى " كانط" Kant أهم روادها ، حيث تقوم فلسفته على الإيمان بعدم وجود عالم خارجى منفصل عن الإنسان وأن الحقيقة هى نتاج النفس البشرية وبأن الشيء ما هو إلا فكرتنا عن الشيء أى أن الحقيقة هى مجرد أفكار لا دلاله لها فى عالم خارجى محسوس، وفى ظل نظريته لم يعد الشعر محاكاة للطبيعة كما كان الاعتقاد فى القرن الثامن عشر وإنما محاكاة الخلق نفسها أى أن العمل الفنى كائناً عضوياً مستقلاً عن أى شيء خارجه. فهو يعد المتعة الفنية غاية فى ذاتها فلا ينبغى أن نبحث وراءها عن غاية خلقية أو اجتماعية ويعتبر أن " الجمال هو رضاء مجرد من الغرض. " " فهو لا يرى عناصر الجمال إلا فى الشكل أما المضمون فيلقى به خارج نطاق علم الجمال "وتعتبر آراء " كانط " هى الدعامة الأساسية لدعاة نظرية الفن للفن حيث عادت إلى فرنسا فى أوائل القرن التاسع عشر كوكبة من المثقفين الفرنسيين المهاجرين الذين أسهموا فى نشر أفكاره وفلسفته ومنهم الشاعر " جوته " الذى يقول فى مقدمة ديوانه "قصائد أولى" (1832) " إذا كان هناك ثمة هدف يحاول هذا الكتاب تحقيقه فهو فقط يحاول أن يكون جميلاً. "

ويعتبر أوسكار وايلد Oscar Wilde واحداً من أنصار هذا المذهب، وكانت مسرحية "سالومى" ثمرة من ثمار دعوى الفن للفن حيث لا مجال للاعتبارات الدينية أو الأخلاقية أو القومية عند التعامل مع نص كهذا .إن هذه المسرحية تعرض تصويراً قوياً للحب الجسدى الشهوانى العنيف، ولكنها تفتقر إلى المبررات التى يمكن أن تقنع المتلقى بهذا الحب، إذ ليس من السهل أن تصدق كيف أن سالومى، تلك الفتاه العذراء تندفع فجأة وبدون مقدمات فى حب يوحنا المعمدان لتصل إلى تلك الدرجة من الشهوى الجسدية دون الإحساس حتى بأى نوع من الحياء أو الخجل.

كما رفع ت . س إليوت T.S Eliot راية مذهب الفن للفن فى أول عهده بالنقد (وهى المرحلة التى تبدأ فى عام 1917) حيث كان همه كله منصرفاً إلى توفير الأسس الجمالية فى العمل الأدبى، فيها كان يفر "إليوت" مما يسميه (خلط الأجناس) يقصد بذلك خلط الأدب بالفلسفة أو بالاجتماع ، فهو يرى أن العمل الأدبى ليس وسيلة ولكنه غاية فى ذاته، ولا يمكن أن يكون إلا صوره لنفسه فقط، إلا أن "إليوت" كان فى المرحلة الثانية من مراحل تطوره أقرب إلى النزعة الواقعية حيث ذكر فى مقدمة كتابه "الغابة المقدسة" (1928) أنه مهما قيل فى استقلال الفن، ومهما أجتهد أهله فى الاكتفاء به غاية فى ذاته، فأنه لا بد وأن يمس مسائل الخلق والدين والسياسة .

وعلى الرغم من بزوغ نظرية الفن للفن فى مطلع القرن التاسع عشر، إلا أن جذورها تمتد إلى القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد "حيث شاعت بعض الآراء والنظريات التى انتهت إلى نظرية حسية فى الجمال غايتها : أن الفن هو إحداث لذة عند الجمهور المتذوق، وعلى الفنان أن يقدم للجمهور ما يلذه ويرضيه لا ما يجب عليه أن يعمله، حتى ولو كان ذلك الفن تمويها وغير مطابق للحقيقة الموضوعية. ومن الطبيعى أن يثور أفلاطون وأمثاله على هذه النظرية الحسية فى الجمال، حيث أصبح الفن عند محترفيه مجرد قواعد محفوظة وصفها أفلاطون بأنها لا توجه الجمهور إلى الخير بل إلى اللذة. ولما كان هذا الفن لا ينطوى على خير ولا حقيقة ولا جمال، فقد وصفه أفلاطون بأنه خيال ومحاكاة مزيفة للحقيقة، واستبعده من مدينته الفاضلة". وعلى هذا النحو يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار أن نقد أفلاطون كان موجهاً إلى الاتجاهات الجديدة فى الفن والفكر المعاصر له، فهو لم يوجه اتهامه إلى الشعر على الإطلاق بل إلى الشعر بقصد اللذة .
لقد جاءت أسطورة نفى أفلاطون الشعراء فى مدينته المثالية نتيجة لإساءة فهم كتاب الجمهورية إذ ذكر أفلاطون الشاعر بقوله (علينا أن نبجله باعتباره شيئاً مقدساً وساحراً وممتعاً، علينا أن نعرفه بأنه لا وجود لمن يماثله فى مدينتنا، وأنه لا يسمح بوجود هذا المثيل وعلينا ألا نعمده بزيت الرايتنج ونكلل جبينه بالغار، وأن نقصيه إلى مدينة أخرى. ومن ناحيتنا نبحث لصالحنا عن شاعر أخر أكثر جفافاً وأقل قدره على التسلية وحكاية القصص يقوم بتمثيل أحاديث الرجل الخير لنا) ويؤكد لنا من يسيئون فهم أفلاطون بأن ضحية هذا الإبعاد هو الشاعر على الإطلاق. ولو أنهم قرءوا العبارة إلى أخرها كما جاء ذكرها هنا، لأمكنهم أن يروا أنه لا يمكن أن يكون المقصود كذلك، فهو لم يقصد الشاعر التمثيلى على الإطلاق، بل قصد الشاعر الذى يعمل على التسلية والذى يمثل ببراعة رائعة وبطريقة مثالية للغاية التوافه والمنفرات .

وقد واجهت دعوت الفن للفن نفس المعارضة التى واجهتها النظرية الحسية فى الجمال فى عصور ما قبل الميلاد، فلقد عاب الاشتراكيون على الدعوة محاولة فصلها عن المجتمع. كما قاد "سارتر" حملة ساخرة على هؤلاء الذين يحصرون قيمة الأدب فى نواحيه الفنية وينفون أن يكون للأدب تأثير أو هدف، فرفض الفصل بين الجمال الفنى والقيمة. وأقر بان الكاتب الذى يتبع تعاليم دعاة (الفن للفن) ، يهتم قبل كل شيء بكتابة آثار لا تخدم شيئا البتة، آثار محرومة من الجذور، وهكذا يضع نفسه على هامش المجتمع، أو لا يقبل بالأحرى إلا يمثل فيه إلا بصفة مستهلك محض، وعلى وجه الدقة كطالب متعه. فالفن الخالص والفن الفارغ سواء بسواء، والدعوى إلى مثل هذا الفن، فيما يرى "سارتر"، ليست إلا ذريعة تذرع بها نكرات القرن الأخير لأنهم أبوا أن يسلكوا سبيل التجديد والكشف وأن يبدعوا شيئاً ذا قيمه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الاجزاء الكيفية للتراجيديا

المكونات الكيفية للتراجيديا ربما كان من الغريب التعمق فى جوانب ومكونات التراجيديا الى الحد الذى يجعل المشاهد او الدارس يتمكن من التعمق فى كي...