الكوميديا بين الميلاد السياسى والاستغراق الذاتى

ااريستوفانيس من الكوميديا القديمة الى الوسطى

بدأت الكوميديا القديمة قبل منتصف القرن الخامس بالشاعرين كراتينوس وكراتيس والذى فاز بأول جائزة مسرحية عام 450 ، تتميز الكوميديا الوسطى بانحصار دور الجوقة فى الاغانى كفواصل بين واختفاء البراباسيس اى الخطاب المباشر

وجدير بالذكر ان الكوميديا القديمة لاتستمد موضوعاتها من الاساطير ولذا تتميز عن التراجيديا باتساع المجال امامها لمناقشة الاحداث المعاصرة ومعالجتها واصبح المسرح الكوميدى منصة يستدعى اليها السياسيين وذلك من اجل المناقشة والتحاور

نجد الشخصيات والاحداث غير حقيقية ولايمكن تصور وجودها الفعلى ولكنها نشأت مستمدة من واقع فعلى وقد اتسمت الكوميديا القديمة بالمزج بين اقصى الحقيقة واللاحقيقة والجمع بين الواقعية الملموسة وخيال الحكايات الخرافية ، الا انه عند اريستوفانيس يمثلان التقاء رومانتيكى بين سمتين جوهريتين فى فن شاعر الكوميديا

فتريجايوس فى مسرحية السلام يمتطى صهوة خنفساء عملاقة متجها بها الى الفضاء لكى يحضر ربة السلام من السماء وهو فى المسرحية رب اسرة بسيط وصاحب مزعة كروم .

وهذا يعنى ان الكوميديا الاثينينة القديمة تعطى صورتين للمجتمع احداهما خيالية مصطنعة تهدف الى الكوميديا وتصور الامور فى حال اسوأ مما هى عليه والاخرى هى الصورة البسيطة التلقائية التى هى انعكاس للظروف الاجتماعية والسياسية السائدة.ويكمن سر فن اريستوفانيس فى مزج عنصرين متناقضين فى اطارواحد متجانس إذ يصعب تحديد اين تنتهى الحقيقة ويبدأ الخيال وتنطلق سهام السخرية ، واصبح من المقبول والمقنع عند اريستوفانيس فقط ان نرى اناسا ليس لهم قيمة واقعية يمكنهم قلب النظام الكونى رأسا على عقب وبذلك بلغت على يده الكوميديا القديمه شانا لم يبلغه اى فن من فنون الادب الاغريقى.

وفيما عدا الاحدى عشر مسرحية التى وصلت لأيدينا كاملة عن اعماله لم يصلنا سوى شذرات متناثرةوقد كان على الشاعر الكوميدى السياسى ان يكون متجاوبا مع الاحداث المعاصرة بحيث يمكن ان يضيف الى النص المسرحى او يحذف منه او يعدل عليه حتى فى اللحظات الاخيرة وقبل العرض مباشرة اذا اقتضت الظروف ، ذلك ان موضوعات الكوميديا القديمة مستمدة من الحياة الاجتماعية واثار الحرب والهزيمة

وعندما قدم مسرحية " البابليون " اقيمت عليه دعوى القذف ووجهت اليه تهمة اللاساءة الى الدولة وانه قد عاب فى الحكام فى حضرة الحلفاء الذين شاهدوا المسرحية ولكنه برغم ذلك عاود الهجوم بشدة على كليون فى مسرحية الفرسان حيث صور الشاعر الشعب الاثينى تحت زعامة كليون برجل عجوز ابله وخرف ولم يكن الاثينين ليسمحوا للشعراء بالسخرية من الشعب ولكنهم سمحوا بمهاجمة الاشخاص كما حدث حينما هاجم اريستوفانيس سقراط الفيلسوف فى مسرحية " السحب " وبرغم ذلك فقد تمتع شعراء الكوميديا بحرية كبيرة لم تحدث سوى فى اثينا فى عصرها الذهبى حيث هاجم الكوميديون بعض القادة السياسين وسخروا منهم مباشرة وبالاسم كما هاجموا القوانين وانتقدوا سياسة الدولة ولم ينج من لسانهم حتى الالهه وربما كان هذا استثناء ولكنه يعكس القاعدة العامة .

ولآن اصل كلمة كوميديا والذى يجمع بين كوموس  komos  بمعنى احتفال او موكب ريفى وكلمة  أودى ode  بمعنى اغنية الى الاغانى والرقصات التى كانت تؤدى فى موسم حصاد العنب المرتبط بعبادة ديونيسوس اله الخمر ، فقد نشأ الفن المسرحى مرتبطاً بالحياة المدنية وكان للجمهور رأى فى الاحداث فغالبا مايشير الحوار الى المتفرجين وكأنهم يشاركون فى الاحداث وقد ياتى رأيهم ليحسم الخلافات فهم يعرفون امور الدنيا افضل من الجوقة .

ونتيجة للتنافس بين شعراء الكوميديا فقد وصل الامر الى حد مدح الذات فى المسرحيات التى صلت الي ايدينا كما ظهر الهجوم على بعض الشعراء المنافسين والتودد الى المحكمين من الجماهير وانما هذا يدل على مدى اهتمام الجمهور بالشعراء ومدى تورطهم فى العملية المسرحية برمتها

فكان الشاعر يطلق نكاته على الجماهير وربما ينتقى احد المتفرجين المشوهين او قبيحى الشكل ليكون اضحوكة الموجودين وقد يوجه نقده الى الجمهور اثناء العرض كما فى مسرحية " برلمان النساء

وبصفة عامة يشبه جمهور الكوميديا الاتيكية القديمة مجلس الشعب الاثينى ولذا نجد الشاعر يخاطبهم بنفس اسلوب خطباء المجلس اثناء الحوار او فى اغانى الجوقة كما ياخذ رأى الجمهور فى الشخصيات التى تمثل على المسرح وهل تروق له ام لا؟

وتتكون المسرحية الاريستوفانية من ستة اجزاء هى : -

1. البرولوج prolog   وهو الجزء الذى يسبق دخول الجوقة ويعرض فكرة وموضوع المسرحية .

2. البارودوس parodos    وهى اغنية الجوقة اثناء دخولها الاوركسترا وهو المكان الدائرى المخصص لها بالمسرح.

3. الاجون agon   اى مناقشة جدلية او مبارة كلامية او مناظرة بين فردين حول موضوع شائك هو محور المسرحية وفكرتها الرئيسية وقد تحتدم المناقشة وتصل الى حد المشادة الكلامية المضحكة.

4. البراباسيس وهو الجزء الذى فيه تتقدم الجوقة الى الامام لتخاطب الجمهور باسم الشاعر وقد اصبح هذا الجزء محورا كوميديا يهدف الى كسر الايهام المسرحى والاندماج الشامل بين الفن والشاعر من جهة والجمهور من جهه اخرى ، وقد تضاءل دور البراباسيس فى الكوميديا حتى اختفى تماما فى الكوميديا الوسطى والحديثة

5. عدد الفصول والمشاهد الحوارية التى تفصل كل منها عن الاخر باغنية للجوقة التى تؤدى فى الاوركسترا

6.    مشهد الخروج exodus   اى الجزء الختامى

ولم يكن الشاعر يهتم بقيود الزمان اثناء الحدث الدرامى حينما يقدم موقف خارق للطبيعة كما يحدث فى مسرحية السلام حيث يطير تريجايوس الى دار الالهة فوق ظهر خنفساء عملاقة ، وهكذا تأتى الكوميديا لتصوير الاحداث الخيالية فى احداث مرتبطة فتجد الحيوانات تتحدث والطيور والسحب كما يحدث فى الحواديت الشعبية

وقد كانت مسرحيات سوفوكليس واريستوفاكليس كلاهما مكمل للاخر فمسرحيات الاول : تمثل التعبير التراجيدى الجاد عن اثينا القرن الخامس فى قمة ازدهارها ، اما الثانى فهو لسانها الكوميدى الساخر حينما توالت عليها المحن والنكسات السياسية والعسكرية.

والكوميديا السياسية هى كالمعارضة وقد وقفت فى مواجهة الحكومة تظهر نقاط ضعفها وقد عرضت فى الوقت الذى اصبح البناء الديموقراطى الاثينى هشاً متصدعاً بسبب الحروب ، ولاينفى ذلك انه كان من عشاق القيم القديمة فلم يسلم من لسان اريستوفانيس اللاذع اى طبقة من طبقات المجتمع ، واصحاب المهن ورجال الفكر وأرباب القلم

ويذكر علماء مدرسة الاسكندرية اربعاً واربعين مسرحية لاريستوفانيس وقد وصل عدد اثنتا وثلاثون عنوان لمسرحياته اما بالنسبة للنص المسرحى فلم يصل سوى احدى عشر مسرحية فقط كان اولها مسرحية " المشاركون فى الوليمة " وثانيها " البابليون " التى عرضت فى اعياد ديونيسوس الكبرى

وفازت مسرحية " الفرسان " لاريستوفانيس بالجائزة الاولى والتى هاجم فيها كليون الزعيم والتى قدم فيها رجالا يلبسون اقنعة تمثل رؤوس الخيل ويحملون فوق ظهورهم رجالاً اخرين هم الفرسان حيث برع فى تقنية التنكر والرمز بدلاً من تقديم خيول حقيقية على المسرح

كما فازت بالجائزة الثانية مسرحيته " الزنابير " التى عالجت التناقض الفكرى بين الاب وابنه او بين القديم والحديث وهى نفس فكرة مسرحيتى " المشاركون فى الوليمة " و" السحب " ولكن هنا الموقف عكسى فالابن هو الذى يضيق ذرعا من تصرفات ابيه ولعله رمز للتناقض هى الاسم حيث الاب يدعى " فيلوكليون " اى المحب لـ كاليون اما الابن فيدعى " بديليكليون" اى الكاره لكاليون

وقد اتجه اريستوفانيس الى موضوع " مدينة فاضلة " تقوم على الاحلام المثالية التى يتحدث فيها عن الملك الذى تحول الى هدهد ويكون افراد الجوقة من الطيور

كما وجه نداءه بالسلام من خلال مسرحية " ليسيستراتى " التى عرضت بعد فشل الحملة الصقلية على اثينا وهو نداء جاد نابع من اعماق الشاعرو ممزوج بالهزل وتمتاز هذه المسرحية باتساع افق الشاعر الذى يتخطى حدود المحلية ويتمتع برؤية قومية شاملة وتجدر الاشارة ال ان هذه المسرحية هى اشهر اعمال اريستوفانيس واقربها الى قلوب الناس واقلام الكتاب على مر العصور

ويمثل النمظر المسرحى عند اريستوفانيس بصفة عامة شارع اثينى فى خلفيته واجهة منزلين او ثلاثة منازل وعادة تجرى الاحداث فجراً حيث النجوم لاتزال متألقة فى صفحة السماء وتبدأ النساء فى الدخول الى الاوركسترا فى مجموعات صغيرة بينما النصف الاخر القادم من الريف فيبدأ فى الظهور بعد بيت 300 وعندئذ يلتئم عدد الجوقة كما فى مسرحية " برلمان النساء "

وهكذا فان كل مسرحية من مسرحيات اريستوفانيس تعتبر مرآة صغيرة تعكس زاوية من زوايا الحياة الاجتماعية والسياسية ، ويعكس اسلوب اريستوفانيس طبيعة الموضوعات التى يعالجها فى كوميدياه فهو يستخدم لغة متعددة الالوان ، ولكنه يستخدم ادواته التعبيرية بيسر وسلاسة

ومن خلال ماسبق نجد ان عمال اريستوفانيس اتبعت شكلاً ثابتاً فى بناء مسرحياته اما " الطيور" ومابعدها فهما تنتميان الى الكوميديا الوسطى وتتمثل التغييرات فى ادخل اغانى الجوقة التى لاتمت بصفة الى المسرحية مما ادى الى الاستغناء عن هذه الاغانى عند اعادة نسخها واكتفى بذكر كلمة جوقة مكان الاغانى وتشير الدلائل الى ان اريستوفانيس كان رائداً لم يسبقه احد فى هذه التجديدات التى ادخلها على الفن الكوميدى.

 

ظهر فى بداية القرن العشرين حيث ظهرت برديات مصرية اكتشفت عام 1907 وعليها ثلاث مسرحيات غير كاملة وهى مسرحيات المحكمون ، الحليقة ، فتاة ساموس ثم طبعت مسرحية " اللفظ " ومسرحيتى " السيكيونى " و " الكرية "

وروى انه احب غانية تدعى جليكيرا ولذلك كان يكتب عن الحب كثيرا وهو مؤلف لايطلب من مواطنيه التمسك بالفضيلة او القيام باعمال بطولية خارقة ولايفترض تمتعهم بذكاء نادر او حكمة علوية

ومناندروس ليس كاتباً دراميا من الدرجة الاولى ولكنه فاز بثمانية جوائز منها جائزة عن مسرحية " الكرية " وهناك مسرحيات اخرى مثل " الخائن مرتين " ، الفلاح ، القرطاجنى ، الشبح ، عازف القيثارة ومن المعروف عنه انه كان يستشهد بحكمة سائرة او قول مأثور

وقد لحق مناندروس بركب شعراء الدراما الاغريق الذين تقدم اعمالهم المسرحية فى مهرجانات حاشدة فى مسارح اثينا ولاننسى فضل الرمال المصرية التى حفظت كوميديات مناندروس

وبنظرة سريعة على مسرحيات مناندروس نجد انه لايعطى البطولة لآشخاص وانما انماط مثل الاب شديد الصرامة فى مواجهة العم اللين المفرط فى التدليل ، ومثل العبد الساذج فى مقابلة زميله الماكر ، والغانية ولم تكن الشخصيات فى كتاباته لها اسماء معروفة ومألوفة لدى الجمهور بل رسم ملامح شخصياته من وحى خياله ومستلهما بعضها من صفات الافراد الذين يعاصرونه .

كما تمتلئ مسرحياته باللقطاء والفتيات المغتصبات والخدم الماكرين حيث كان النقاد يمتدحونه فهو مؤلف درامى يختار بعض الجوانب ويسلط عليها الضوء واحيانا يبالغ فى تصويرها .

ولاتخلو اى من مسرحياته من قصة حب ، ولكنه عادة لايكون الموضوع الرئيسي ولاننسى ان هناك مسرحيات كثيرة مفقودة وربما لو ظهرت لتم الكشف عن مدى التنوع فى كتاباته

كان مناندروس بارعاً فى رسم خيوط الحبكة الدرامية والتنويع بادخال حوادث فرعية ، كما كان دائما يضع الجمهور نصب عينيه اثناء عملية الكتابة وقد يتوجه اليه (الجمهور ) بالخطاب مباشرة وقد اسقط مسرح مناندروس دور الجوقة إذ اقتصر هذا الدور ان وجد على الرقصات والاغانى التى تأتى بمثابة فواصل بين المشاهد الحوارية

والحبكة عند مناندروس ليست اسطورة وانما تحاكى مايقع فى الحياة اليومية ، وتميز مناندروس على مقدرته على جعل الشخصيات تتحدث باللغه الائقة بها كما فى مسرحية الفظ حيث نجد ديمياس ونيكيراتوس ويقابلهما جورجياس وسوستراتوس كل منهما يناقض الاخر فى الملامح الشخصية والطباع والمستوى اللغوى ولعل هذا جعل بعض علماء النحو يتهمون مناندروس باستخدام اساليب " غير أتيكية " ( قديمة ) وكان مناندروس يستخدم اساليب الحوار السريع فى معارضة منه لشعراء التراجيديا والسخرية منهم كما انه كان يترك للمتفرج مهمه فهم الشخصية لآن الحوار يتطلب متفرجاً واعياً

ولكن شتان بين مسرح اريستوفانيس القائم على قضايا انسانية عامة ومسائل فكرية جوهرية مثل المرأة والرجل ، الثروة الفقر ، العدالة والمساواه وبين مسرح مناندروس القائم على القضايا الخاصة للافراد والمشاكل اليومية فمسرح اريستوفانيس شامخ شموخ الانسان واوسع افقا لان ابطاله منغمسون فى الحياه العامة بل ان قضايا حياتهم اليومية تذوب فى خضم المصلحة العامة ، اما فى مسرح مناندروس فان الانسان تقوقع فى ذاته وفقد الامل فى تحقيق طموحه وانشغل بحياته الخاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الاجزاء الكيفية للتراجيديا

المكونات الكيفية للتراجيديا ربما كان من الغريب التعمق فى جوانب ومكونات التراجيديا الى الحد الذى يجعل المشاهد او الدارس يتمكن من التعمق فى كي...