الرمزية من حيث المضمون الفكرى

بدأت المدرسة الرمزية فى الظهور منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر ولكن مصطلح الرمزيين لم يظهر إلا فى أواخر القرن التاسع عشر (عام 1885) بعد أن ضاق الكتاب الشبان بلقب "المنحلين" الذى كان يستخدم عادة فى وصف الكتاب الرافضين للنظرية الواقعية والطبيعية، والمتأثرين بنظرية الفن للفن والفلسفة المثالية الذاتية. نشأت الرمزية فى ظل الفلسفة الألمانية التى خرجت منها المدرسة الرومانسية. وهى تحمل فى طياتها الرؤية الأفلاطونية المثالية للوجود، حيث تتفق مع أفلاطون فى افتراض أن العالم المحسوس ما هو إلا انعكاس لعالم مثالى فوق الطبيعة المرئية، وتختلف معه فقط فى جعلها الخيال الفردى الملكة الأساسية للوصول إلى هذا العالم، بينما اختار أفلاطون ملكة العقل والتفكير التجريدى.

المدرسة الرمزية تختلف عن غيرها من المدارس المسرحية فهى لم تنشأ مرة واحدة ولم تكن لها مبادىء محددة معلنة منذ البداية وإنما ظهرت فى مراحل زمنية متتالية وعلى يد أدباء عديدين قام كل منهم على حدة ببلورة بعض من المبادىء والأفكار التى كونت النظرية الجمالية التى عرفت فيما بعد بالرمزية. ويمكن تلخيص هذه المبادىء على النحو التالى:

أولًا: رفض مبدأ محاكاة الطبيعة، فالطبيعة هى "ستار" يحجب العالم الروحى الحقيقى.

ثانيًا: الاعتقاد بأن جمال العالم المحسوس هو إنعكاس للجمال العلوى النورانى. فالعالم المحسوس ما هو إلا "غابة من الرموز" وكل شىء فيه له معنى رمزى يربطه بعالم الروح.

ثالثًا: رفض العقل، والإيمان بأن الخيال هو الملكة الوحيدة لإدراك الحقيقة، والمقصود بالخيال هنا هو القدرة على استنباط المعانى الرمزية الكامنة فى الظواهر الحسية حيث أن الطبيعة المحسوسة هى تجسيد رمزى للحياة الروحية.

رابعًا: الإيمان بوحدة وعضوية العمل الفنى واستقلاله، وبأن كل عمل فنى جيد هو تركيبة رمزية معقدة تعبر عن حقيقة روحية فريدة. ولا يمكن أن نقارن العمل الفنى بأى شىء خارجه أو أن نفرض عليه قوانين وأحكام خارجية. إن العمل الجيد يعبر عن حقيقة روحية بصورة جيدة وهو لذلك لا يمكن أن يكون لا أخلاقيًا أو قبيحًا حتى لو كانت المادة التى صيغ منها قبيحة أو لا أخلاقية بالمعنى التقليدى.

خامسًا: محاولة استكشاف مشاعر وحالات نفسية جديدة كمادة لللإبداع عن طريق ممارسة إنحلال وتناول الخمور والمخدرات، وعن طريق التصوف والتعمق فى العلوم الروحانية والغيبية التى ازدهرت فى فرنسا حينذاك، وخاصة جلسات تحضير الأرواح.

سادسًا: الإيمان بأن عملية الخلق الفنى هى عملية واعية تستخدم قدرات وملكات العقل وليست وليدة إلهام أو مس شيطانى.

سابعًا: الإيمان بضرورة الاعتماد على الإيحاء بدل من التقرير والمباشرة.

ثامنًا: محاولة تقريب الشعر من الموسيقى.

تاسعًا: استخدام لغة تعتمد على المفارقة، والتقابل والتضاد، والصور والاستعارات الغريبة وتداعى الأصوات المعانى حتى يتمكن الفنان من تجسيد رؤى ومشاعر وحالات نفسية غير مألوفة.

 

المسرح الرمزى فى فرنسا:

مالارميه: تصور مالارميه لغة مسرحية جديدة تتحرر من قواعد تركيب الجمل المعروفة وتمتزج فيها الصورة بالحركة امتزاجًا يعبر تعبريًا رمزيًا عن الحياة الداخلية والنفسية فى إطار مسرحى شعرى. وهذه اللغة غير واضحة أو مغهومة بالمعنى التقليدى، فهى لن تنقل أفكارا أو تقرر معانى ولن تخاطب العقل بل ستخاطب الخيال، وتكون مهمتها تجسيد الأحلام والخيالات والصمت تجسيدًا شعوريًا، وتخلق جو من الغموض. أما الحركة المسرحية فلابد أن تكتسب طابع الحركة الطقسية وأن تتم فى حدود الضرورة القصوى. وتأثر بأفكار الموسيقار فاجنر فكلاهما يؤمن بأن المسرح لا يجب أن يعتمد على السرد أو الحدوتة أو الدلالات المباشرة. وأن الدراما الطقسية يمكن أن تجسد مشاعر ومعانى صوفية، وضرورة استخدام الرقص والموسيقى والتمثيل الصامت فى تصوير أعماق النفس البشرية.

موريس ميترلنك: أنشأ الشاعر بول فورت مسرحا خاص عام 1890 سماه مسرح الفن وكان يقدم بشكل أساسى مسرحيات رمزية للكاتب البلجيكى الأصل موريس ميترلنك. رغم قراءة ميترلنك المتعمقة للمدرسة الواقعية والطبيعية إلا أنه كان يميل إلى التصوف وكان يرتاد حلقات التنويم المغناطيسى وتحضير الأرواح وأبدى اهتماما شديدا بالساحر المشهور هودينى. أدى هذا الاهتمام بالتصوف والغيبيات إلى ثورته على الواقعية والطبيعية والمادية وتطلع إلى مسرح ينفذ من العالم المادى إلى عالم الروح.

تعتبر مسرحيات ميترلنك والمسرحيات الرمزية عموما من أصعب المسرحيات إخراجا على المسرح فهى تعتمد إعتمادًا كبيرًا على الإيقاع والإضاءة لإبراز لحظات الصمت البليغة والظلال الموحية التى تساعد على تجسيد المعانى. وقد ساعد المسرح الرمزى ظهور مهندس الديكور العبقرى أدولف آبيا الذى استحدث أساليب جديدة فى الإضاءة والتصميم المسرحى، وأحدث ثورة فى شكل خشبة المسرح.

امتد تأثير المدرسة الرمزية وانتشر إلى أوروبا فنجد أعمال سترندبرج الأخيرة مثل الحلم وسوناتا الشبح وفى أعمال النرويجى هنريك إبسن الأخيرة مثل البناء العظيم والتى ربط فيها بين العالم المادى والعالم الغيبى، وعلى أعمال الأيرلندى ويليام ييتس التى غلب عليها طابع شاعرية الحركة التى استقاها من الرمزية ومن المسرح اليابانى المعروف باسم "النو" الذى يعتمد على الإيقاع والموسيقى والتمثيل الصامت، وفى أيرلنده أيضًا تأثر الكاتب المسرحى جون سينج بالمدرسة الرمزية غير أنه فضل أن يتبع نفس طريق إبسن فى عدم إسقاط البعد الواقعى للدراما.

يمكن القول إذن أن المسرح الرمزى فى تطوره انقسم إلى تيارين:

الأول: يعكس الإعتقاد بأن العالم المحسوس ما هو إلا ستار يحجب الغيب ويجب اختراقه وهو ما يتم ترجمته دراميًا عن طريق إلغاء المستوى الواقعى للحدث بحيث يقترب العمل الدرامى من القصيدة الشعرية. يمثل هذا التيار ميترلنك وسترندبرج.

الثانى: يعكس الاعتقاد بأن العالم الواقعى المادى هو تجسيد رمزى لعالم الغيبيات، أى أن عالم الروح وعالم المادة يتداخلان فى كل أكبر بشكل كل شىء، والترجمة الدرامية لهذه الفكرة تتخذ صورة الحفاظ على المستوى الواقعى مع إعطائه بعدًا روحيًا أو رمزيًا يعطى معنى أعمق للحدث الخارجى، بحيث يصبح هذا الحدث الخارجى رمزا لحقيقة إنسانية ثابتة لا تخضع لأية متغيرات. ويمثل هذا التيار إبسن و سينج.


رغم أن المسرح الرمزى فى أنقى صوره يبدو فى ظاهره مختلفًا عن المسرح الكلاسيكى، إلا أنه فى نهاية الأمر يجعل وظيفة الدراما هى نفس الوظيفة التى حددتها النظرية الأرسطية وهى استخلاص المطلق الثابت من النسبى المتغير، وإقناع المتفرج بأن تأمله للبعد الغيبى المطلق أجدى من تفاعله مع الواقع التاريخى المتغير.

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الاجزاء الكيفية للتراجيديا

المكونات الكيفية للتراجيديا ربما كان من الغريب التعمق فى جوانب ومكونات التراجيديا الى الحد الذى يجعل المشاهد او الدارس يتمكن من التعمق فى كي...