الاتجاهات الأدبية التي
نشأت نتيجة التحول الفلسفي إلى النسبية والمادية:
· الاتجاه الإبداعى الذى تأثر بفلسفة اللغة:
التيار
الأول ويتمثل
فى تأثربعض الكتاب به باعتباره نشاطًا لغويًا يحاول الفنان من خلاله إرساء
قواعد تاريخية عفا عليها الزمن وإقناع القارىء بقبولها والتعامل معها باعتبارها الإطارالمرجعى
للعمل الفنى الذى يتم من خلاله تحديد معنى التجربة ودلالاتها ومن أبرز أدباء القرن
العشرين الذين يمثلون هذا الاتجاه فى المسرح كلا من
1- "إليوت": وقد حاول فى مرحلته الأولى، قبل أن يعتنق المذهب الكاثوليكى، أن يتخطى ككاتب عقبة غياب
المطلق ونسبية المعنى ورأى أن العمل الفنى لا يرد إلى شىء خارجه سوى التراث
الأدبى. أما بعد اعتناقه الكاثوليكية فاستخدم "إليوت" هذه العقيدة
الصارمة كمرجعية. ربما كان السبب الأساسى فى فشل مسرح "إليوت" هو
محاولته لإعادة استخدام المسرح وفقًا للنظرية الأرسطية؛ أى استخدام المسرح لمحاكاة
الواقع محاكاة فلسفية، بغرض ترسيخ نظرية ميتافيزيقية تهدف الى المحافظة على
المجتمع والسياسة متجاهله الرؤية النسبية وروح الثورة والتشكك التى سادت القرن
العشرين فى أوروربا، فجاءت مسرحياته أقرب ما يكون للدراما الرجوازية الواقعية
الأخلاقية. فرق "إليوت بين (التصديق العاطفى) و(التصديق العقلى) وقال إن
اختلاف الإطار العقائدى الذى يطرحه العمل الأدبى عن الإطار العقائدى الذى يؤمن به
القارىء أو المتفرج ولا يمثل بالضرورة عائقًا لاستمتاع المتفرج بالعمل، فالمتفرج
يعطل عقله ليتلقى التجربة الوجدانية النى يجسدها العمل.
2-"ييتس":
له محاولة جادة لخلق إطار مرجعى فلسفى لشعرع ومسرحه، ولكنه على عكس
"إليوت" لم يختر الرجوع إلى أحضان الفلسفة اليونانية أو المسيحية، وإنما
شرع فى خلق نظرية فلسفية خاصة من وحى الديانات الشرقية وتعاليم عالم الروحانيات
السويدى المشهور "سويدنبورج". استفاد "ييتس" من الأساطير
الشعبية الأيرلندية باعتبارها معروفة للجميع كوسيلة لترسيخ مجموعة من القيم
المطلقة التى اعتبرها الأساس فى حياة الإنسان الروحية فجاء مسرحه شبيهًا بمسرح
"ميترلنك" الرمزى ومسرح "النو" اليابانى. وجد "ييتس" فى الأسلوب اليابانى فى
التجسيد الحركى المسرحى مهربًا من أزمة نسبية المعنى فى غياب المطلق وانفصال
الكلمة عن أى دلالة واضحة.
على
أيدى "ييتس" من ناحية والتعبيريين من ناحية تانية تدهورت أهمية الكلمة
باعتبارها الموصل الأول على خشبة المسرح حتى وصلت إلى الاعتراف المباشر بعبثيتها
فى مسرح العبث. وازدهر ما يعرف بلغة المسرح، أى الاعتماد فى العرض المسرحى أساسًا
على الاستعارة المرئية والتشكيل المجسد والحركة والإضاءة وباقى عناصر العرض
المسرحى المرئية والسمعية، القائمة على فكرة نسبية المعنى.
التيار
الثانى: يمثله مجموعة من
الكتاب قبلوا اكتشافات الفلسفة الحديثة خاصة فيما يتعلق بغياب المطلق ونسبية
المعنى دون أن يحاولوا إيجاد نظرية جديدة تطرح تصورًا جديدًا للمطلق. انصرفوا إلى
تصوير الموقف المضحك الباكى لإنسان القرن العشرين مؤكدين عبثية الحياة فى غياب
المطلق فظهرت حركة مسرح العبث التى أخذت من الوجودية جانبها السلبى التشاؤمى الذى
يقول بوحدة الإنسان الوجودية واغترابه فى عالم يناصبه العداء واستحالة التواصل على
أسس موضوعية. وهنا تكمن مفارقة مسرح العبث الذى يعترف بغياب المطلق ولكنه فى نفس
الوقت يستحضر هذا المطلق المفقود طول الوقت عندما يجعل التحسر على غيابه والبكاء
عليه موضوعه الأساسى والمتكرر. هنا يكمن التشابه الفلسفى بين مسرح العبث والمسرح
الإغريقى رغم اختلاف الأسلوب الواضح بينهما: فالمطلق فى المسرح الإغريقى كان يفرض
نفسه على الأحداث حضورًا أما المطلق فى مسرح العبث فيفرض نفسه بغيابه فهو الغائب
الحاضر دائمًا على مسرح الأحداث.
إن
القارىء لمسرح العبث نادرًا ما يجد شخصيات متفردة محددة الملامح، فى إطار سياق
اجتماعى تاريخى محدد، فشخصيات هذا المسرح تقترب إلى حد كبير من النمط الإنسانى
الذى كان يقوم بدور البطولة فى المسرحيات الدينية فى العصور الوسطى وكان يسمى
ببساطة الإنسان وهو رمز لجميع البشر. والموقف الأساسى المتكرر فى مسرح العبث هو
نفس الموقف الذى نجده فى الدراما الدينية وهو البحث عن الخلاص الروحى. ولكن بينما
كان مسرح العصور الوسطى الدينى يؤكد إمكانية هذا الخلاص جاء مسرح العبث ليؤكد
استحالته.
ونجد مسرح العبث عند "صمويل بيكيت" هو مسرح دينى فى جوهره ولكنه يختلف فى غياب العقيدة ويؤكد أهمية الإيمان بالمطلق، كما يؤكد تفوق الرؤية الدينية على الرؤية العلمانية وهو أيضًا مسرح يؤكد أهمية الفعل الإنسانى فى تقريرالمصير كما يهمل غياب البعد الاجتماعى ورغم أن الكاتب الفرنسى "يوجين يونسكو" يوظف مسرحه أحيانًا احتجاجا على بعض الأوضاع الاجتماعية وانتقادا لبعض العلاقات الإنسانية أوالاحتجاج على آلية ونمطية الحياة الحديثة، التى يفقد فيها الإنسان آدميته، إلا أن مسرحياته فى مجموعها تقدم تفسيرًا دينيًا لا اجتماعيًا وعبثية الحياة.
فكلما ازداد وعى الكاتب العبثى بالبعد
الاجتماعى كلما ابتعد عن الرؤية العبثية وركز فى مسرحه على المشاكل التى يمكن أن
يلعب فيها الإنسان دورًا بدلاً من المشاكل الميتافيزيقية التى يقف عاجزًا حيالها.
أما فى مسرح الكاتب المسرحى الإنجليزى "هارولد بنتر" والذى ينتسب الى التيارالعبثى والذى يعد امتداداً لمسرح "بيكيت" فنجد أنه أدخل فى مسرحه البعد الاجتماعى فهو لا يصور شخصياته فى فراغ بل يضعها فى الزمن الحاضر وفى بيئة اجتماعية محددة بل ويوضح طبقتها الاجتماعية كما أن شخصياته ليست رموزا للإنسان وإنما شخصيات محددة. يوظف "بنتر" الإطار الاجتماعى واللغة فى مسرحه للغوص فى وجدان شخصياته وتجسيد حالاتها النفسية والشعورية وكشف عزلتها ومعاناتها وإحساسها بالإحباط. تتلخص رؤية "بنتر" فى أن الفرد يتعرض دائمًا فى كل دقيقة إلى محاولات الغزو والقهر ويحاول دائمًا أن يردها وأن يجد لنفسه ركنًا آمنًا مستقلاً ولكن دون فائدة. ورؤية "بنتر" تقترب من مقولة "سارتر" بأن (الجحيم هو الآخرون)، وهى رؤية هروبية فى صميمها رغم أنها تدين جميع أنواع القهر الفكرى ومحاولات القولبة التى يتعرض لها الفرد فى العصر الحديث.
إن
"بنتر" فى مسرحه يكشف عن أن غياب المطلق لم يحرر الإنسان من العبودية
الفكرية ويضمن له حرية القول والفكر والعمل. فقد ظهرت فى العصر الحديث ألوان جديدة
من القهر الفكرى تتقنع كلها بقناع المطلق وتستخدم اللغة الفاسدة كسلاح إرهابى
وتعاقب الفرد إذا اختلف عنها. يرى "بنتر" أن المطلق الدينى القديم قد حل
محله مطلق جديد هو النظام الاجتماعى الذى يستعبد الفرد. ونجد فى مسرح
"بنتر" ومجموعة من المسرحيين فى نفس اتجاه مجموعة من السمات الأساسية:
·
التشكيك فى الأنماط اللغوية باعتبارها تمثل نظام قهر
وتسلط وسلاحًا خطيرًا لاستلاب عقل الإنسان
·
استخدام عنصر الكوميديا الذى يعتمد على شحذ وعى المتفرج
النقدى لإدراك مفارقة ما
·
مسرحية الفن المسرحى أو الطبيعة المصطنعة للدراما،
فالدراما لا تحاكى أو تصور الواقع وإنما تفحصه فحصًا نقديًا لتبين لنا زيف تصورنا
عن الواقع
· الاتجاه الإبداعى الذى تأثر بفلسفات الفعل:
1- التيار الوجودى: أهم ما يذكر عنه هو ميله نحو التعميم
والشعبية ويمتاز بصفة التأثير ومحاولة تغيير الأوضاع وإحداث الانقلابات بين
الجموع. الأدب الوجودى لا يعتمد على المحاكاة ولا يقف على دعائم من التعبير اللغوى
المنمق بل تعتمد على التأمل والنظر العقلى. أهم الكتاب المسرحيين الوجوديين
"جان بول سارتر" و "ألبير كامو". أهم ما يميز أعمال
"سارتر" المسرحية هو استخدامه للأسطورة اليونانية القديمة لتأكيد فلسفة
مناقضة تمامًا لفلسفة "أرسطو" حيث يستخدم الأسطورة لا لترسيخ قوانين
مطلقة مسبقة تملى على الإنسان طاعتها فى كل الظروف، بل يستخدمها لتأكيد حرية الفرد
فى اختيار أفعاله وفى فرض قيمه من خلال أفعاله. أما "كامو" فيهتم بفكرة
صراع الإنسان مع المستحيل ويؤكد وحدة الإنسان وعزلته الميتافيزيقية- الوجودية.
ترجع أهمية المسرح الوجودى رغم مباشرته
الشديدة وافتقاره إلى التجريب فى الشكل إلى تأكيد قيمة الإنسان وقيمة الفعل ومبدأ
حرية الاختيار، ومبدأ المسئولية الأخلاقية بعيدا عن المطلق.
2- بريخت وتيار المسرح الملحمى: يعد
"بريخت" أهم منظر للمسرح والدراما منذ "أرسطو". أحدث
"بريخت" ثورة حقيقية فى نظرية الدراما وأتى بنظرية عكسية تمامًا لنظرية
"أرسطو". وجوهر الخلاف بين "أرسطو" و"بريخت" يتلخص
فى جملة "ماركس" الشهيرة بأن الفلسفة قد حصرت جهودها فى إيجاد نظريات
لتفسير العالم بدلاً من أن تحاول تغييره. آمن "بريخت" بالماركسية ووضع
نظريته المسرحية فى إطار الفكر الماركسى. قامت النظرية الأرسطية على مبدأ خدمة
وتدعيم الأيديولوجية السائدة وعلى ضرورة تقديم صورة منطقية واقعية للعالم وأكدت
على مبدأ تعاطف المتفرج وتوحده مع هذه الصورة، بينما تقوم النظرية البريختية-
الماركسية على محاولة هدم الأيديولوجية السائدة والدعوة لأيديولوجية جديدة، لذلك
أصرت على مشاركة المتفرج إيجابيًا فى العرض وعلى ضرورة إيقاظ وعى المتفرج النقدى
بمساوىء الأيديولوجية السائدة عن طريق تصوير الواقع تصويرًا غريبًا بحيث ينتبه
المتفرج إلى ضرورة تغييره ويستيقظ لديه الفعل الثورى. ومن أجل تحقيق هذا الهدف وضع
"بريخت" مجموعة من القواعد الفنية فى العرض المسرحى من أجل هدم مبدأ
الإيهام والتعاطف الأرسطى وإثارة وعى المتفرج بغرابة وتناقض واقعه وإثارة الرغبة
فيه إلى تغيير هذا الواقع. أفرز فكر "بريخت" ونظريته المسرحية الملحمية
فروعًا كثيرة مثل: المسرح الفقير فى أمريكا اللاتينية، والمسرح الوثائقى فى
أوروبا، والمسرح البديل فى انجلترا وأمريكا.
يمكن فهم أهمية نظرية المسرح الملحمى البريختية
بمقارنتها بالمسرح الدرامى الأرسطى:
المسرح الدرامى الأرسطى |
المسرح الملحمى |
يعتمد على الحبكة |
يعتمد على السرد |
يستغرق المتفرج داخل الحدث الدرامى |
يحول المتفرج إلى مراقب للحدث |
يستهلك قدرة الإنسان على الفعل |
يثير قدرة الإنسان على الفعل |
يثير أحاسيس المتفرج ومشاعره |
يدفع المتفرج إلى اتخاذ قرارات إزاء ما يحدث |
يقدم للمتفرج تجربة يعايشها وجدانيًا |
يقدم للمتفرج صورة للعالم يتأملها عقليًا |
يسعى إلى تحقيق انخراط المتفرج وتورطه فى الأحداث |
يسعى إلى مواجهة المتفرج بالأحداث مواجهة موضوعية |
يوظف الإيحاء والتلميح |
يوظف المناقشة والجدل ومقارعة الحجة بالحجة |
يثير المشاعر الغريزية ويلعب عليها بنعومة |
يخرج المشاعر الغريزية للنور ويدفع المشاهد إلى
إدراكها بوعيه |
يشعر المتفرج أنه فى خضم الأحداث |
يقف المتفرج فيه خارج الأحداث ويدرسها |
مفهوم الإنسان لا يخضع فيه للمناقشة والتفسير،
فالإنسان هو الإنسان فى كل زمان ومكان |
الإنسان يصبح فيه موضوع بحث، فالإنسان قابل للتغير
وإحداث تغيير وليس مفهومًا مطلقًا |
التركيز فيه على نهاية الأحداث |
التركيز فيه على مسار الأحداث والأحداث نفسها |
كل مشهد يولد المشهد الذى يليه ويتولد من سابقه |
كل مشهد يستقل بذاته وبدلالته عن المشاهد الأخرى |
الحدث ينمو فى خط صاعد مترابط |
العرض يعتمد على تكنيك المونتاج والقطع والوصل ويتطور
فى شكل منحنيات |
الحدث يتطور وفق منطق الحتمية الدرامية |
الأحداث تتوالى فيما يشبه القفزات |
يفترض أن الإنسان كيان ثابت أو نقطة ثابتة |
يفترض أن الإنسان عملية مستمرة ومتحولة |
يفترض أن الفكر يتحكم فى الوجود ويحدد طبيعته ويقرر
مساره |
يفترض أن الوجود الاجتماعى يتحكم فى الفكر ويحدد
طبيعته وتوجهاته |
مسرح يتوجه إلى الإحساس ويخاطبه |
مسرح يتوجه إلى العقل ويخاطب الوعى |
الممثل فيه يتقمص دوره تمامًا ويندمج ويخاطب عواطف
المتفرج |
الممثل يؤدى دوره من الخارج دون تقمص ويخاطب عقل
المتفرج وهو أقرب إلى الراوى الماهر |
الديكور فيه يسعى إلى الإيهام بالواقع |
الديكور فيه يشيرإلى الأماكن بصورة رمزية تعارض
الإيهام |
الموسيقى تعمق الحالة الشعورية لتحقق إندماج المتفرج
فى الأحداث |
الموسيقى تعارض الحالة الشعورية وتكسرها وقد تعلق
عليها تعليقا ساخرا لتمنع الاندماج |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق